" خلق ثقافة جديدة لا يعني مجرد قيام كل فرد باكتشافات أصيلة بل يعني أيضا وبالتحديد نشر حقائق اكتشفت من قبل نشرا نقديا بحيث تصبح هذه الحقائق اجتماعية وتتحول إلى أسس لأعمال حيوية وعناصر تنسيق وتنظيم ثقافي وأخلاقي"[1]أنطونيو غرامشي
الوضع الطبيعي المطلوب بالنسبة للعلم والحضارة والتنوير هي أن القسم الأهم من البشر مثقفون وأن تقوم هذه الطبقة المثقفة بدورها الوظيفي في المجتمع من أجل التوعية والتربية والتوجيه وصنع الرأي العام والحرص على احترام المصلحة المشتركة بشكل مرموق ولكن الوضع الموجود الطارئ والمداهم هو حالة الاستقالة واللامبالاة والعزوف التي يتصف بها معظم المتعلمين والمتعالمين أي أن القسم الأهم من البشر لا يمارسون وظيفة المثقف في المجتمع بل يصدرون مجموعة من الأحكام المسبقة ويفضلون أن يتم معاملتهم كطبقة تعيش في برجها العاجي وفي عالم من الحريات المجردة والمثل الأفلاطونية البعيدة كل البعد عن الواقع اليومي وغير القابلة للانطباق على التجربة التاريخية للدول والشعوب.
إذا نظرنا إلى حالة الثقافة والمثقفين عندنا فإننا نستنتج تدهور الثقافة وضعفها على مستوى الإنتاج الكمي والتأثير الذوقي في الناس والحضور النوعي في المحافل الدولية ونستخلص كذلك قلة المثقفين واهتمام الموجودين منهم بقضايا شكلية وخوضهم صراعات وهمية واستنجادهم بجهات رسمية أجنبية. إذ يظن البعض أن صفة المثقف ينبغي أن يوصف بها كل من يبشر بقيم الحضارة الغربية ويستعمل مناهجها وينشر علومها ونظريتها ومن ينظر إليها على أنها هي الحقيقة الموضوعية والفكر الكوني ويحرم منها الدارس الذي مازال يستشهد من كتب التراث ويجتر ثقافات الماضي حتى وان ادعى الانتماء إلى العقلانية والعلم والفلسفة ومارس النقد والتفكيك فالي أي مدى يصح هذا الرأي؟ من هو المثقف؟ وكيف يكون مثقفا عضويا؟ لكن لماذا يعاني المثقف العربي من احتباس معرفي على مستوى النظر واحتباس عملي على مستوى الفعل؟ ما المقصود بالاحتباس المعرفي؟ وأليس من المنطقي أن يخلف احتباسا عمليا؟ وهل يمكن أن نعثر لهما عن حل أم أن الحالة العربية الإسلامية ملقحة ضد الوعي والثقافة؟
مدار الأمر هنا هو الاعتراض على أن يكون المثقف من فئة التكنوقراط سدنة الأنظمة الشمولية وعرابي الايديوليجيات المعولة والعمل على تفعيل شخصية المثقف النقدي الحامل لهموم أمته والقادر على الاندماج في المجتمع والمؤهل على إحداث التغيير في الواقع.
1- الاحتباس المعرفي: " لا تنقرض ثقافة ما إلا بمقتضى ضعفها الخاص" مالرو
الاحتباس مفهوم أنتجه علم المناخ ليدل به على ظاهرة طبيعية مستحدثة أضرت بالبيئة ورفعت درجة سخونة الأرض وسببت الكوارث والأعاصير وجعلت جميع الفصول تظهر متعاقبة في اليوم الواحد وأدت إلى إمكانية ابتلاع مياه البحار والمحيطات لقسم هام من اليابسة كل ذلك بسبب تكون غلاف من الغازات حول الأرض ناتج عن التلوث المتأتي بدوره من حمى التصنيع والتسابق من أجل التسلح حال دون عكس أشعة الشمس على سطح الأرض وانتشارها بحرية خارج الغلاف الجوي. ونحن هنا نستسمح علماء المناخ لكي نستخدم هذا المفهوم في المجال الأنثربولوجي ونصف به حالة ثقافتنا المهترئة وبالتالي يجوز لنا أن نقول عن المثقف العربي أنه يعيش وضعية الاحتباس أو بين محبسين: محبس الجمهور الذي ينظر إليه بريبة كبيرة ويتهمه بالتقاعس والإهمال لدوره الطليعي ومحبس الأنظمة الشمولية وإمبراطوريات العولمة الاختراقية التي خلعته عن عرشه ووضعت المستشار التكنوقراطي والمحاسب والوكيل التجاري مكانه ودجنته وجعلته مجرد موظف تابع يستجدي العطايا والهبات من السلطات ويلاحق المسابقات من أجل تحقيق الشهرة الناقصة والثروة النادرة.
من البين أن المثقف العربي يعاني من الاحتباس المعرفي تماما مثلما تعاني أمه الأرض من الاحتباس الحراري وإذا كان هذا الأخير قد سبب للأرض الاختناق وارتفاع درجة الحرارة فان الاحتباس المعرفي لم يرفع من درجة سخونة الإنسان العربي بل زاد في درجة البرودة لديه وتثاقلت همته نحو العلم والمعرفة ولم يعد يجد في الكتاب خير جليس ولم يعد يرى النور متأتيا من العلم بل من الدرهم والدينار ويظهر هذا الاحتباس المعرفي في تراجع الإنتاج وندرة الترجمات وارتفاع نسبة الأمية وهجرة الأدمغة إلى الخارج وضعف التشجيع على البحث العلمي وإصابة الجامعات بالعقم وتردي مستوى الشهادات العلمية المحرز عليها وتفشي الفساد والرشوة والمحسوبية في هذه الدوائر الأكاديمية. كما أن قيمة الإنتاج المعرفي محدودة ولا ترتقي إلى مستوى العالمية فالثقافة العربية كماهي الآن وبهذا المستوى من الرداءة هي ثقافة محلية تعبر بصدق عن حالة ما قبل ثقافية لمجتمعات هجرت دور الثقافة واحتمت بالمقاهي والأسواق العامة من أجل الثرثرة ونشر الإشاعة تنتظر المخلص والمدد من السماء. العرب في زمن العولمة يعتقدون أنهم يعرفون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون وهم معذورون في ذلك لأن ركام الأجوبة قد ردم ميلهم الفطري إلى التسآل ولأن شهيتهم في المعرفة متأثرة بنقص التغذية التي تعاني منها معداتهم في ظل الوفرة الفارغة والندرة المكلفة.
صحيح أن هناك بعض المحاولات وأن البعض من العلماء هنا وهناك يبذلون جهود جبارة من أجل مواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي وفهم ما يحدث داخل الساحة الفكرية للثقافة المتقدمة وصحيح أيضا أن البعض منهم حقق بعض الابتكارات وكان له السبق في اختراع هنا واكتشاف هناك ولكن مؤسسة العلم بالمعنى الحقيقي للكلمة مازالت لم تظهر بعد عندنا وتخضع لوصاية المؤسسة السياسية والعسكرية وفي الغد المؤسسة الاقتصادية والثقافة مازالت تحت رحمة الإيمان والعقل مسيج بالخرافة والأسطورة والفلسفة يداهمها الرأي والدعاية. هل يعقل أن يغيب العلماء والشعراء والأدباء منذ نجيب محفوظ عن جائزة نوبل؟ كيف نفسر هذا الغياب لعلماء وكتاب عرب عن هذه الجائزة؟ لماذا ليس لنا فلاسفة حقيقيين يفكرون في الكوني ولا ينشغلون فقط في همومهم الخصوصية الضيقة؟ أليس هذا دليل على انحسار الثقافة العربية واحتباس المثقف فيها داخل عباءة الفقيه؟ كيف يؤثر شيخ حوزة دينية في القرار السياسي بينما يسبب مقال لصحفي ركود اقتصادي؟ ألا يسمى هذا قصور على صعيد العمل؟
2- الاحتباس العملي:
" لدى الشخص المثقف رغبة طبيعية في أن يكون قائدا عادلا وإنسانيا بيد أن السلطة تغير جذريا طبع من يمارسها" ألان
لم يعد أحد في دائرة السكان الافتراضيين لحضارة اقرأ ينصت للمثقف ويقرأ ما يكتب ويلتزم بما يقول ولم يعد المثقف نفسه فارس المرحلة ورجل الميدان وأصبح بعيدا عن النصح والإرشاد والتوجيه وحل محله علم السبيرنيتيقا أو هو كثيرا ما ينعت بالإصبع ويتهم بالكذب والنفاق وذلك لكثرة مقالاته وكتبه وتزايد مشاريعه ومقابلاته المرئية وقلة حيلته وضعف تأثيره وعجزه عن تغيير الأوضاع فهو لا يقنع ويثرثر ويتكلم لغة صعبة ولسان حاله يقول:"على من تتلو كتابك يا داود" لأن الذي يدخل من الأذن اليمنى للمتقبل يخرج من أذنه اليسرى ونحن أمة لا تقرأ وان قرأت لا تعرف وان عرفت لا تعمل بما عرفته ومبدؤها هو "أعوذ بالله من علم لا ينفع" وما الحاجة إلى مشقة التفكير والعلم مكنوز في التراث والحداثة ولماذا نغامر بالعمل ونجتهد في الممارسة وأقطاب الطريقة يرتقون بنا في المقامات التي توصلنا إلى الصراط المستقيم.
المثقف العربي مستقيل ومنتظر على الدوام ويستجدي غيره دائما وأبدا،يطلب العون من رجل الدين غير المثقف للاتصال مع الجماهير ويحتمي برجل السياسة المتشبع بثقافة البطش من أجل الظهور بمظهر محترم فتنهال عليه الصفات من كل جانب فهو المتنور والتقدمي والمتأنق تنعشه أنوار العلوم الغربية وتمتعه الفنون الكلاسيكية وتصاعد أسهم اليقين الديني تدفعه نحو ترميم روحانيات الذات دون تساؤل أو استنكار ومعايشته الحروب والعنف والمرض كأوضاع القصوى تدفعه إلى الهروب نحو المجهول أو الدوران حول شمس وهمية إن أحسن صنعا كما أن الثورة الرقمية ومكننة الحياة تزيده خمولا وعزوفا عن الإنتاج وترفع من معدلاته في الترفيه والاستهلاك. وبالتالي فهو في جميع الظروف مثقفا هائما ينظر الوقت كله دون أن تكون له أية صلة بالتجربة وبعالم الحياة،إذ ترى متى كان الدكاترة والشعراء والعلماء وأساتذة الجامعات فاعلين اجتماعيين؟ ومن منهم الآن قادر على ترك بصمات له في الواقع وقلب الأوضاع رأسا على عقب؟ أليس ما ينقصهم هو النظر الفاعل والعمل الناظر؟ ألا ينبغي أن تتجسد كل نظرية معرفية في تخطيط استراتيجي تستثمر الماضي في قراءة الحاضر و تستشرف المستقبل؟
ما أبعد مثقفينا عن جون بول سارتر الذي كان رجل البراكسيس في شوارع باريس وأنهجها وفي عقول الشبيبة ووجدانها والكراسات التي يرسلها إلى الشعب ويوزعها بنفسه في المظاهرات هي الواسطة وعن صديقه الأسمر فرانس فانون الذي كان مناهضا للاستعمار وللتمييز العنصري كاشفا الأقنعة البيضاء وراء الوجوه السوداء مرافقا المرض والموت والفقر الذين خلفه العلم المتقدم لإفريقيا الشابة المغلوبة على أمرها المولعة بتقليد الغالب،ثم قبل ذلك ما أبعدهم عن أسلافهم القراء في زمن التأسيس الذين لم يكونوا فقط حملة الوحي يحفظونه عن ظهر قلب بل فرسان فاتحين يبنون الحصون ويشيدون المدارس ويرفعون الجهل ويساعدون المحتاج ويفعلون في واقعهم طبقا لحاجيات عصرهم، إنهم لم يكونوا مقعدين ومحتبسين بل كانت أعماله آيات على فضائلهم وكانت أقوالهم شهادات على الدافع الحيوي الذي يحركهم وتحفزهم الوجودي الذي يجعلهم يتدخلون في ما لا يعنيهم.أما اليوم فالعرب يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يعرفون ويوجد منهم السريالي والبوهيمي والمتعصب والمنبطح والفوضوي والامتثالي والطوباوي الحالم والمغرد المتشائم والإيماني واللاأدري دون تبني الأفكار الحقيقية لهذه المذاهب والنظريات وكأنها أسماء دون مسميات أو بيوت دون عناوين والسبب في ذلك أن العرب أضاعوا عنوانهم المعرفي ومقصدهم العملي.
من هذا المنطلق يظهر الاحتباس في تكاثر عدد المتزلفين من المثقفين التقليديين الذين يسايرون السائد ويبررون ماهو موجود ويخدمون رأس المال ويسندون السلطات ويناصرون كل الأفكار الشمولية مع ندرة المثقف العضوي الذي يتشجع على استعمال عقله وتنمو لديه ملكة النقد ويزداد عنده حس الرفض والرغبة في التغيير فيحمل على الظلم والاستغلال ويفضح أشكال التشويه الذي يتعرض لها الإنسان ويردم الفجوة بين فكره وقوله وفعله ويعطي للعمل الأولوية المطلقة على النظر أو يجعل النظر في خدمة العمل،فكيف نطالب الثقافة العربية بالتجدد والاستئناف وهي في زمنها الحاضر لم تعرف مفكرين أحرار من طينة بشار وأبي نواس والرازي وواصل ابن عطاء وابن الرواندي والحلاج والمعري والتوحيدي الذين جعلوا من كلامهم مقاما لوجودهم وجعلوا من نمط وجودهم تحضيرا لثورات اجتماعية قادمة؟ كيف لشعب يريد أن يعانق الإبداع ويشارك المطلق المتعالي في الخلق وهو لم يشهد بعث مجانين مثل ابن الهيثم والبيروني والخيام والفارابي يكتب باستهلاك ما تبقى من نفسه؟
الاحتباس العملي هو العجز عن التغيير وبطء في الحركة وثقل الإيقاع ورطانة الأسلوب والاحتماء بالأبراج المشيدة للراحة وهو صفة ملازمة للمثقف العربي اليوم تدل على نخبويته ومماطلته وفي نفس الوقت تبلده وجبنه فأين لنا بفولتير حتى يجرم هؤلاء الثقفوت المتكسبين المسترزقين؟ أين هو هذا الفيلسوف الديمقراطي الذي يوائم بين النظر والعمل سعيا إلى تحرير الناس بالرغم عنهم؟
3- المثقف النقدي هو الفيلسوف الديمقراطي:
"إن فلسفة البراكسيس لا تهدف إلى إبقاء السذج على فلسفتهم البدائية فلسفة الحس العام بل إلى النهوض بهم نحو تصور أعلى للحياة ولئن قالت بضرورة الاحتكاك بين أهل الفكر والسذج فهي لا ترمي بهذا الإثبات إلى الحد من نشاط العلم ولا إلى إبقاء الوحدة على المستوى الأدنى بل إلى إنشاء كتلة فكرية أخلاقية تجعل التقدم الفكري ممكنا من الناحية السياسية لا لبعض الزمر الضيقة من أهل الفكر وحسب بل للجماهير عامة " [2]
يمكن للمثقف في ساحات الفكر العربي أن يتجاوز حالة الاحتباس المعرفي والعملي وحالة التشرذم والتشتت ويلعب دوارا بارزا في تحقيق التحرير والوحدة والنهضة والتقدم والتقسيم العادل للثروة ويضمن الحرية لكل فرد في جميع المجالات إذا ما سعى إلى انتشال الفردانية من سيطرة النزعات الجمعانية وحرص على بناء كتلة تاريخية تضم جميع الفرقاء وتتخذ من الدين ومجمل الثقافة الوطنية بما في ذلك الفلسفة منهاجا للعمل، وإذا ما تخلص من النمط التكنوقراطي الذي يقضي حياته في خدمة الأنظمة الحاكمة وفي السهر على تمرير المشاريع الاستعمارية وتلطيفها وقام بالتسلح بروح الثورة والاعتراض والنقد من أجل قلب الأوضاع رأسا على عقب وتثبيت مشروع الممانعة والمقاومة على أرض الواقع. وبالتالي ينبغي على الفيلسوف أن يكون ديمقراطيا وفي خدمة ثقافة شعبه إذا ما أراد أن يكون فيلسوفا بحق ويجب على المثقف أن يرتفع إلى مرتبط الفيلسوف الديمقراطي إذا ما رغب في أن يكون مثقفا عضويا فاعلا في مجتمعه وله تأثير في دفعة حركة التاريخ إلى الأمام.
يقول غرامشي:" لا يستطيع أن يكون فيلسوفا أي صاحب تصور للعالم متماسك بصورة نقدية إلا إذا وعى تاريخيته ووعى مرحلة التطور التي يمثلها هذا الواقع التاريخي،هذا إلى جانب وعيه للتناقض بين هذا التصور والتصورات الأخرى أو بينه وبين بعض عناصرها"[3] ويقصد أن كل واحد يغير ذاته ويبدلها بقدر ما يغير أو يبدل العلاقات المركبة التي يشغل منها مركز الارتباط.بهذا المعنى نقول إن الفيلسوف الحقيقي هو السياسي ولا يمكن أن يكون غير ذلك انه الإنسان الفاعل الذي يبدل البيئة ومعنى البيئة جملة العلاقات التي تنظم حياة كل إنسان بمفرده"[4]
شخصية الفيلسوف الديمقراطي تقوم على النضال المشخص من أجل الإنسان بالتسلح بالروح العلمية وبإنصاف خصومه عند ممارسته للعمل النقدي وهو كذلك الذي تربط بشعبه روابط عضوية بحيث يحس بمشاكله ويفهم تطلعاته ويلتصق به بروابط فاعلة وتاريخية ويمارس التفكير الذاتي الحر يقول غرامشي في هذا السياق:" حيث توجد هذه الحرية يتكون بصورة تاريخية نمط جديد من الفلاسفة يجوز أن يطلق عليه اسم النمط الديمقراطي وهو الفيلسوف الذي يعتقد أن شخصيته لا تقتصر على شخصه المادي بل تتضمن أيضا علاقة اجتماعية فاعلة تغير المحيط الثقافي"[5]
صحيح أن البشرية لا تطرح أسئلة لا تكون قادرة على حلها والمجتمع لا يكلف نفسه القيام بأفعال لم تتوافر لديه الشروط الكافية لتحقيقها وبالقياس إلى ذلك يمكن أن يطمح العلماء إلى معالجة ظاهرة الاحتباس الحراري بالوسائل العلمية والتقنيات المناسبة لذلك لكن ماهو غير صحيح أن العرب سيضعون حدا لحالة احتباسهم لأنهم كانوا على الدوام الاستثناء فهم ما انفكوا يشخصون أمراضهم دون أن يعثروا على الدواء الملائم لها، إنهم عندما يتقدمون للفعل يختارون الأشياء الممكنة ولكن إرادتهم تقع على الأشياء المستحيلة فيقعون فريسة أوهامهم ويتيهون في صحراء الوجود كالعادة، ولكن بارقة الأمل التي تظهر الآن تتمثل في ازدهار الثقافة الالكترونية والدخول من الباب الكبير إلى عصر الصورة وبروز الكتاب المسموع والمنتدى الفكري كوسط محايثة لتبادل الآراء والتواصل بين الذوات، فهل تقدر موجة المقالات والتحاليل المنشورة على الإنترنت من معالجة ظاهرة الاحتباس المعرفي والعملي في الثقافة العربية بعدما يأس الناس من المقالات والتحاليل المدفونة في الكتب؟
الوضع الطبيعي المطلوب بالنسبة للعلم والحضارة والتنوير هي أن القسم الأهم من البشر مثقفون وأن تقوم هذه الطبقة المثقفة بدورها الوظيفي في المجتمع من أجل التوعية والتربية والتوجيه وصنع الرأي العام والحرص على احترام المصلحة المشتركة بشكل مرموق ولكن الوضع الموجود الطارئ والمداهم هو حالة الاستقالة واللامبالاة والعزوف التي يتصف بها معظم المتعلمين والمتعالمين أي أن القسم الأهم من البشر لا يمارسون وظيفة المثقف في المجتمع بل يصدرون مجموعة من الأحكام المسبقة ويفضلون أن يتم معاملتهم كطبقة تعيش في برجها العاجي وفي عالم من الحريات المجردة والمثل الأفلاطونية البعيدة كل البعد عن الواقع اليومي وغير القابلة للانطباق على التجربة التاريخية للدول والشعوب.
إذا نظرنا إلى حالة الثقافة والمثقفين عندنا فإننا نستنتج تدهور الثقافة وضعفها على مستوى الإنتاج الكمي والتأثير الذوقي في الناس والحضور النوعي في المحافل الدولية ونستخلص كذلك قلة المثقفين واهتمام الموجودين منهم بقضايا شكلية وخوضهم صراعات وهمية واستنجادهم بجهات رسمية أجنبية. إذ يظن البعض أن صفة المثقف ينبغي أن يوصف بها كل من يبشر بقيم الحضارة الغربية ويستعمل مناهجها وينشر علومها ونظريتها ومن ينظر إليها على أنها هي الحقيقة الموضوعية والفكر الكوني ويحرم منها الدارس الذي مازال يستشهد من كتب التراث ويجتر ثقافات الماضي حتى وان ادعى الانتماء إلى العقلانية والعلم والفلسفة ومارس النقد والتفكيك فالي أي مدى يصح هذا الرأي؟ من هو المثقف؟ وكيف يكون مثقفا عضويا؟ لكن لماذا يعاني المثقف العربي من احتباس معرفي على مستوى النظر واحتباس عملي على مستوى الفعل؟ ما المقصود بالاحتباس المعرفي؟ وأليس من المنطقي أن يخلف احتباسا عمليا؟ وهل يمكن أن نعثر لهما عن حل أم أن الحالة العربية الإسلامية ملقحة ضد الوعي والثقافة؟
مدار الأمر هنا هو الاعتراض على أن يكون المثقف من فئة التكنوقراط سدنة الأنظمة الشمولية وعرابي الايديوليجيات المعولة والعمل على تفعيل شخصية المثقف النقدي الحامل لهموم أمته والقادر على الاندماج في المجتمع والمؤهل على إحداث التغيير في الواقع.
1- الاحتباس المعرفي: " لا تنقرض ثقافة ما إلا بمقتضى ضعفها الخاص" مالرو
الاحتباس مفهوم أنتجه علم المناخ ليدل به على ظاهرة طبيعية مستحدثة أضرت بالبيئة ورفعت درجة سخونة الأرض وسببت الكوارث والأعاصير وجعلت جميع الفصول تظهر متعاقبة في اليوم الواحد وأدت إلى إمكانية ابتلاع مياه البحار والمحيطات لقسم هام من اليابسة كل ذلك بسبب تكون غلاف من الغازات حول الأرض ناتج عن التلوث المتأتي بدوره من حمى التصنيع والتسابق من أجل التسلح حال دون عكس أشعة الشمس على سطح الأرض وانتشارها بحرية خارج الغلاف الجوي. ونحن هنا نستسمح علماء المناخ لكي نستخدم هذا المفهوم في المجال الأنثربولوجي ونصف به حالة ثقافتنا المهترئة وبالتالي يجوز لنا أن نقول عن المثقف العربي أنه يعيش وضعية الاحتباس أو بين محبسين: محبس الجمهور الذي ينظر إليه بريبة كبيرة ويتهمه بالتقاعس والإهمال لدوره الطليعي ومحبس الأنظمة الشمولية وإمبراطوريات العولمة الاختراقية التي خلعته عن عرشه ووضعت المستشار التكنوقراطي والمحاسب والوكيل التجاري مكانه ودجنته وجعلته مجرد موظف تابع يستجدي العطايا والهبات من السلطات ويلاحق المسابقات من أجل تحقيق الشهرة الناقصة والثروة النادرة.
من البين أن المثقف العربي يعاني من الاحتباس المعرفي تماما مثلما تعاني أمه الأرض من الاحتباس الحراري وإذا كان هذا الأخير قد سبب للأرض الاختناق وارتفاع درجة الحرارة فان الاحتباس المعرفي لم يرفع من درجة سخونة الإنسان العربي بل زاد في درجة البرودة لديه وتثاقلت همته نحو العلم والمعرفة ولم يعد يجد في الكتاب خير جليس ولم يعد يرى النور متأتيا من العلم بل من الدرهم والدينار ويظهر هذا الاحتباس المعرفي في تراجع الإنتاج وندرة الترجمات وارتفاع نسبة الأمية وهجرة الأدمغة إلى الخارج وضعف التشجيع على البحث العلمي وإصابة الجامعات بالعقم وتردي مستوى الشهادات العلمية المحرز عليها وتفشي الفساد والرشوة والمحسوبية في هذه الدوائر الأكاديمية. كما أن قيمة الإنتاج المعرفي محدودة ولا ترتقي إلى مستوى العالمية فالثقافة العربية كماهي الآن وبهذا المستوى من الرداءة هي ثقافة محلية تعبر بصدق عن حالة ما قبل ثقافية لمجتمعات هجرت دور الثقافة واحتمت بالمقاهي والأسواق العامة من أجل الثرثرة ونشر الإشاعة تنتظر المخلص والمدد من السماء. العرب في زمن العولمة يعتقدون أنهم يعرفون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون وهم معذورون في ذلك لأن ركام الأجوبة قد ردم ميلهم الفطري إلى التسآل ولأن شهيتهم في المعرفة متأثرة بنقص التغذية التي تعاني منها معداتهم في ظل الوفرة الفارغة والندرة المكلفة.
صحيح أن هناك بعض المحاولات وأن البعض من العلماء هنا وهناك يبذلون جهود جبارة من أجل مواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي وفهم ما يحدث داخل الساحة الفكرية للثقافة المتقدمة وصحيح أيضا أن البعض منهم حقق بعض الابتكارات وكان له السبق في اختراع هنا واكتشاف هناك ولكن مؤسسة العلم بالمعنى الحقيقي للكلمة مازالت لم تظهر بعد عندنا وتخضع لوصاية المؤسسة السياسية والعسكرية وفي الغد المؤسسة الاقتصادية والثقافة مازالت تحت رحمة الإيمان والعقل مسيج بالخرافة والأسطورة والفلسفة يداهمها الرأي والدعاية. هل يعقل أن يغيب العلماء والشعراء والأدباء منذ نجيب محفوظ عن جائزة نوبل؟ كيف نفسر هذا الغياب لعلماء وكتاب عرب عن هذه الجائزة؟ لماذا ليس لنا فلاسفة حقيقيين يفكرون في الكوني ولا ينشغلون فقط في همومهم الخصوصية الضيقة؟ أليس هذا دليل على انحسار الثقافة العربية واحتباس المثقف فيها داخل عباءة الفقيه؟ كيف يؤثر شيخ حوزة دينية في القرار السياسي بينما يسبب مقال لصحفي ركود اقتصادي؟ ألا يسمى هذا قصور على صعيد العمل؟
2- الاحتباس العملي:
" لدى الشخص المثقف رغبة طبيعية في أن يكون قائدا عادلا وإنسانيا بيد أن السلطة تغير جذريا طبع من يمارسها" ألان
لم يعد أحد في دائرة السكان الافتراضيين لحضارة اقرأ ينصت للمثقف ويقرأ ما يكتب ويلتزم بما يقول ولم يعد المثقف نفسه فارس المرحلة ورجل الميدان وأصبح بعيدا عن النصح والإرشاد والتوجيه وحل محله علم السبيرنيتيقا أو هو كثيرا ما ينعت بالإصبع ويتهم بالكذب والنفاق وذلك لكثرة مقالاته وكتبه وتزايد مشاريعه ومقابلاته المرئية وقلة حيلته وضعف تأثيره وعجزه عن تغيير الأوضاع فهو لا يقنع ويثرثر ويتكلم لغة صعبة ولسان حاله يقول:"على من تتلو كتابك يا داود" لأن الذي يدخل من الأذن اليمنى للمتقبل يخرج من أذنه اليسرى ونحن أمة لا تقرأ وان قرأت لا تعرف وان عرفت لا تعمل بما عرفته ومبدؤها هو "أعوذ بالله من علم لا ينفع" وما الحاجة إلى مشقة التفكير والعلم مكنوز في التراث والحداثة ولماذا نغامر بالعمل ونجتهد في الممارسة وأقطاب الطريقة يرتقون بنا في المقامات التي توصلنا إلى الصراط المستقيم.
المثقف العربي مستقيل ومنتظر على الدوام ويستجدي غيره دائما وأبدا،يطلب العون من رجل الدين غير المثقف للاتصال مع الجماهير ويحتمي برجل السياسة المتشبع بثقافة البطش من أجل الظهور بمظهر محترم فتنهال عليه الصفات من كل جانب فهو المتنور والتقدمي والمتأنق تنعشه أنوار العلوم الغربية وتمتعه الفنون الكلاسيكية وتصاعد أسهم اليقين الديني تدفعه نحو ترميم روحانيات الذات دون تساؤل أو استنكار ومعايشته الحروب والعنف والمرض كأوضاع القصوى تدفعه إلى الهروب نحو المجهول أو الدوران حول شمس وهمية إن أحسن صنعا كما أن الثورة الرقمية ومكننة الحياة تزيده خمولا وعزوفا عن الإنتاج وترفع من معدلاته في الترفيه والاستهلاك. وبالتالي فهو في جميع الظروف مثقفا هائما ينظر الوقت كله دون أن تكون له أية صلة بالتجربة وبعالم الحياة،إذ ترى متى كان الدكاترة والشعراء والعلماء وأساتذة الجامعات فاعلين اجتماعيين؟ ومن منهم الآن قادر على ترك بصمات له في الواقع وقلب الأوضاع رأسا على عقب؟ أليس ما ينقصهم هو النظر الفاعل والعمل الناظر؟ ألا ينبغي أن تتجسد كل نظرية معرفية في تخطيط استراتيجي تستثمر الماضي في قراءة الحاضر و تستشرف المستقبل؟
ما أبعد مثقفينا عن جون بول سارتر الذي كان رجل البراكسيس في شوارع باريس وأنهجها وفي عقول الشبيبة ووجدانها والكراسات التي يرسلها إلى الشعب ويوزعها بنفسه في المظاهرات هي الواسطة وعن صديقه الأسمر فرانس فانون الذي كان مناهضا للاستعمار وللتمييز العنصري كاشفا الأقنعة البيضاء وراء الوجوه السوداء مرافقا المرض والموت والفقر الذين خلفه العلم المتقدم لإفريقيا الشابة المغلوبة على أمرها المولعة بتقليد الغالب،ثم قبل ذلك ما أبعدهم عن أسلافهم القراء في زمن التأسيس الذين لم يكونوا فقط حملة الوحي يحفظونه عن ظهر قلب بل فرسان فاتحين يبنون الحصون ويشيدون المدارس ويرفعون الجهل ويساعدون المحتاج ويفعلون في واقعهم طبقا لحاجيات عصرهم، إنهم لم يكونوا مقعدين ومحتبسين بل كانت أعماله آيات على فضائلهم وكانت أقوالهم شهادات على الدافع الحيوي الذي يحركهم وتحفزهم الوجودي الذي يجعلهم يتدخلون في ما لا يعنيهم.أما اليوم فالعرب يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يعرفون ويوجد منهم السريالي والبوهيمي والمتعصب والمنبطح والفوضوي والامتثالي والطوباوي الحالم والمغرد المتشائم والإيماني واللاأدري دون تبني الأفكار الحقيقية لهذه المذاهب والنظريات وكأنها أسماء دون مسميات أو بيوت دون عناوين والسبب في ذلك أن العرب أضاعوا عنوانهم المعرفي ومقصدهم العملي.
من هذا المنطلق يظهر الاحتباس في تكاثر عدد المتزلفين من المثقفين التقليديين الذين يسايرون السائد ويبررون ماهو موجود ويخدمون رأس المال ويسندون السلطات ويناصرون كل الأفكار الشمولية مع ندرة المثقف العضوي الذي يتشجع على استعمال عقله وتنمو لديه ملكة النقد ويزداد عنده حس الرفض والرغبة في التغيير فيحمل على الظلم والاستغلال ويفضح أشكال التشويه الذي يتعرض لها الإنسان ويردم الفجوة بين فكره وقوله وفعله ويعطي للعمل الأولوية المطلقة على النظر أو يجعل النظر في خدمة العمل،فكيف نطالب الثقافة العربية بالتجدد والاستئناف وهي في زمنها الحاضر لم تعرف مفكرين أحرار من طينة بشار وأبي نواس والرازي وواصل ابن عطاء وابن الرواندي والحلاج والمعري والتوحيدي الذين جعلوا من كلامهم مقاما لوجودهم وجعلوا من نمط وجودهم تحضيرا لثورات اجتماعية قادمة؟ كيف لشعب يريد أن يعانق الإبداع ويشارك المطلق المتعالي في الخلق وهو لم يشهد بعث مجانين مثل ابن الهيثم والبيروني والخيام والفارابي يكتب باستهلاك ما تبقى من نفسه؟
الاحتباس العملي هو العجز عن التغيير وبطء في الحركة وثقل الإيقاع ورطانة الأسلوب والاحتماء بالأبراج المشيدة للراحة وهو صفة ملازمة للمثقف العربي اليوم تدل على نخبويته ومماطلته وفي نفس الوقت تبلده وجبنه فأين لنا بفولتير حتى يجرم هؤلاء الثقفوت المتكسبين المسترزقين؟ أين هو هذا الفيلسوف الديمقراطي الذي يوائم بين النظر والعمل سعيا إلى تحرير الناس بالرغم عنهم؟
3- المثقف النقدي هو الفيلسوف الديمقراطي:
"إن فلسفة البراكسيس لا تهدف إلى إبقاء السذج على فلسفتهم البدائية فلسفة الحس العام بل إلى النهوض بهم نحو تصور أعلى للحياة ولئن قالت بضرورة الاحتكاك بين أهل الفكر والسذج فهي لا ترمي بهذا الإثبات إلى الحد من نشاط العلم ولا إلى إبقاء الوحدة على المستوى الأدنى بل إلى إنشاء كتلة فكرية أخلاقية تجعل التقدم الفكري ممكنا من الناحية السياسية لا لبعض الزمر الضيقة من أهل الفكر وحسب بل للجماهير عامة " [2]
يمكن للمثقف في ساحات الفكر العربي أن يتجاوز حالة الاحتباس المعرفي والعملي وحالة التشرذم والتشتت ويلعب دوارا بارزا في تحقيق التحرير والوحدة والنهضة والتقدم والتقسيم العادل للثروة ويضمن الحرية لكل فرد في جميع المجالات إذا ما سعى إلى انتشال الفردانية من سيطرة النزعات الجمعانية وحرص على بناء كتلة تاريخية تضم جميع الفرقاء وتتخذ من الدين ومجمل الثقافة الوطنية بما في ذلك الفلسفة منهاجا للعمل، وإذا ما تخلص من النمط التكنوقراطي الذي يقضي حياته في خدمة الأنظمة الحاكمة وفي السهر على تمرير المشاريع الاستعمارية وتلطيفها وقام بالتسلح بروح الثورة والاعتراض والنقد من أجل قلب الأوضاع رأسا على عقب وتثبيت مشروع الممانعة والمقاومة على أرض الواقع. وبالتالي ينبغي على الفيلسوف أن يكون ديمقراطيا وفي خدمة ثقافة شعبه إذا ما أراد أن يكون فيلسوفا بحق ويجب على المثقف أن يرتفع إلى مرتبط الفيلسوف الديمقراطي إذا ما رغب في أن يكون مثقفا عضويا فاعلا في مجتمعه وله تأثير في دفعة حركة التاريخ إلى الأمام.
يقول غرامشي:" لا يستطيع أن يكون فيلسوفا أي صاحب تصور للعالم متماسك بصورة نقدية إلا إذا وعى تاريخيته ووعى مرحلة التطور التي يمثلها هذا الواقع التاريخي،هذا إلى جانب وعيه للتناقض بين هذا التصور والتصورات الأخرى أو بينه وبين بعض عناصرها"[3] ويقصد أن كل واحد يغير ذاته ويبدلها بقدر ما يغير أو يبدل العلاقات المركبة التي يشغل منها مركز الارتباط.بهذا المعنى نقول إن الفيلسوف الحقيقي هو السياسي ولا يمكن أن يكون غير ذلك انه الإنسان الفاعل الذي يبدل البيئة ومعنى البيئة جملة العلاقات التي تنظم حياة كل إنسان بمفرده"[4]
شخصية الفيلسوف الديمقراطي تقوم على النضال المشخص من أجل الإنسان بالتسلح بالروح العلمية وبإنصاف خصومه عند ممارسته للعمل النقدي وهو كذلك الذي تربط بشعبه روابط عضوية بحيث يحس بمشاكله ويفهم تطلعاته ويلتصق به بروابط فاعلة وتاريخية ويمارس التفكير الذاتي الحر يقول غرامشي في هذا السياق:" حيث توجد هذه الحرية يتكون بصورة تاريخية نمط جديد من الفلاسفة يجوز أن يطلق عليه اسم النمط الديمقراطي وهو الفيلسوف الذي يعتقد أن شخصيته لا تقتصر على شخصه المادي بل تتضمن أيضا علاقة اجتماعية فاعلة تغير المحيط الثقافي"[5]
صحيح أن البشرية لا تطرح أسئلة لا تكون قادرة على حلها والمجتمع لا يكلف نفسه القيام بأفعال لم تتوافر لديه الشروط الكافية لتحقيقها وبالقياس إلى ذلك يمكن أن يطمح العلماء إلى معالجة ظاهرة الاحتباس الحراري بالوسائل العلمية والتقنيات المناسبة لذلك لكن ماهو غير صحيح أن العرب سيضعون حدا لحالة احتباسهم لأنهم كانوا على الدوام الاستثناء فهم ما انفكوا يشخصون أمراضهم دون أن يعثروا على الدواء الملائم لها، إنهم عندما يتقدمون للفعل يختارون الأشياء الممكنة ولكن إرادتهم تقع على الأشياء المستحيلة فيقعون فريسة أوهامهم ويتيهون في صحراء الوجود كالعادة، ولكن بارقة الأمل التي تظهر الآن تتمثل في ازدهار الثقافة الالكترونية والدخول من الباب الكبير إلى عصر الصورة وبروز الكتاب المسموع والمنتدى الفكري كوسط محايثة لتبادل الآراء والتواصل بين الذوات، فهل تقدر موجة المقالات والتحاليل المنشورة على الإنترنت من معالجة ظاهرة الاحتباس المعرفي والعملي في الثقافة العربية بعدما يأس الناس من المقالات والتحاليل المدفونة في الكتب؟