كان المهدي جواداً شهما فطنا مليح الشكل محبباً إلى الرعية حسن الاعتقاد تتبع الزنادقة وأفنى منهم خلقاً كثيراً وهو أول من أمر بتصنيف كتب الجدل في الرد على الزنادقة والملحدين روي الحديث عن أبيه وعن مبارك بن فضالة حدث عنه يحيى بن حمزة وجعفر بن سليمان الضبعي ومحمد بن عبد الله الرقاشي وأبو سفيان سعيد بن يحيى الحميري قال الذهبي وما علمت قيل فيه جرحاً ولا تعديلا.
ولما شب المهدي أمره أبوه على طبرستان وما والاها وتأدب وجالس العلماء وتميز ثم إن أباه عهد إليه فلما مات بويع بالخلافة ووصل الخبر إليه ببغداد فخطب الناس فقال: إن أمير المؤمنين عبد دعي فأجاب وأمر فأطاع واغرورقت عيناه فقال قد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند فراق الأحبة ولقد فارقت عظيماً وقلدت جسيماً فعند الله أحتسب أمير المؤمنين وبه أستعين على خلافة المسلمين أيها الناس أسروا مثل ما تعلنون من طاعتنا نهبكم العافية وتحمدوا العاقبة واخفضوا جناح الطاعة لمن نشر معدلته فيكم وطوى الإصر عنكم وأهال عليكم السلامة من حيث رآه الله مقدما ذلك والله لأفننين عمري بين عقوبتكم والإحسان إليكم.
قال نفطويه: لما حصلت الخزائن في يد المهدي أخذ في رد المظالم فأخرج أكثر الذخائر ففرقها وبر أهله ومواليه.
وقال غيره: أول من هنأ المهدي بالخلافة وعزاه بأبيه أبو دلامة فقال:
عيناي واحدة ترى مـسـرورة بأميرها جذلى وأخرى تذرف
تبكي وتضحك تارة ويسوؤهـا ما أنكرت ويسرها ما تعـرف
فيسوءها موت الخليفة محرمـاً ويسرها أن قام هـذا الأرأف
ما إن رأيت كما رأيت ولا أرى شعراً أسرحه وآخر ينـتـف
هلك الخليفة يا لدين مـحـمـد وأتاكم من بعد مـن يخـلـف
أهدى لهذا الله فضـل خـلافة ولذاك جنات النعيم تزخـرف
وفي سنة تسع وخمسين ومائة بايع المهدي بولاية العهد لموسى الهادي ثم من بعده لهارون الرشيد ولديه.
وفي سنة ستين ومائة فتحت أربد من الهند عنوة وفيها حج المهدي فأنهى إليه حجبة الكعبة أنهم يخافون هدمها لكثرة ما عليها من الأستار فأمر بها فجردت واقتصر على كسوة المهدي وحمل إلى المهدي الثلج إلى مكة قال الذهبي لم يتهيأ ذلك لملك قط.
وفي سنة إحدى وستين ومائة أمر المهدي بعمارة طريق مكة وبنى بها قصوراً وعمل البرك وأمر بترك المقاصير التي في جوامع الإسلام وقصر المنابر وصيرها على مقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي سنة ثلاث وستين وما بعدها كثرت الفتوح بالروم.
وفي سنة ست وستين ومائة تحول المهدي إلى قصره المسمى بعيساباذ وأمر فأقيم له البريد من المدينة النبوية ومن اليمن ومكة إلى الحضرة بغالا وإبلا قال الذهبي: وهو أول من عمل البريد من الحجاز إلى العراق.
وفيها وفيما بعدها جد المهدي في تتبع الزنادقة وإبادتهم والبحث عنهم في الآفاق والقتل على التهمة.
وفي سنة سبع وستين ومائة أمر بالزيادة الكبرى في المسجد الحرام وأدخل في ذلك دوراً كثيرة.
وقال سلم الخاسر يرثي الخليفة المهدي :
وباكية على المهدي عبـرى كأن بها وما جنت جنـونـا
وقد خمشت محاسنها وأبـدت غدائرها وأظهرت القرونـا
لئن بلى الخليفة بـعـد عـز لقد أبقى مساعي ما بلـينـا
سلام الـلـه عـدة كـل يوم على المهدي حين ثوى رهينا
تركنا الدين والدنيا جمـيعـاً بحيث ثوى أمير المؤمنـينـا
ومن أخبار المهدي قال الصولي لما عقد المهدي العهد لولده موسى قال مروان بن أبي حفصة:
عقدت لموسى بالرصافة بـيعة شد الإله بهـا عـرى الإسـلام
موسى الذي عرفت قريش فضله ولها فضيلتها عـلـى الأقـوام
بمحمد بعد النـبـي مـحـمـد حيي الحلال ومات كل حـرام
مهدي أمته الذي أمـسـت بـه للـذل آمـنـه ولـلإعــدام
موسى ولي عهد الخلافة بعـده جفت بذاك مـواقـع الأقـلام
وقال آخر:
يا بن الخلـيفة إن أمة أحـمـد تاقت إليك بطـاعة أهـواؤهـا
ولتملأن الأرض عدلا كـالـذي كانت تحدث أمة علـمـاؤهـا
حتى تمنى لو ترى أمـواتـهـا من عدل حكمك ما ترى أحياؤها
فعلى أبيك اليوم بهجة ملكـهـا وغدا عليك إزارهـا ورداؤهـا
وأسند الصولي أن امرأة اعترضت المهدي فقال يا عصبة رسول الله صلى الله عليه وسلم انظر في حاجتي فقال المهدي: ما سمعتها من أحد قط أقضوا حاجتها وأعطوها عشرة آلاف درهم.
وأخرج البغوي في الجعديات عن حمدان الأصبهاني قال كنت عند شريك فأتاه ابن المهدي فاستند وسأل عن حديث فلم يلتفت شريك ثم أعاد فعاد فقال كأنك تستخف بأولاد الخلفاء قال لا ولكن العلم أزيد عند أهله من أن يضيعوه فجثا على ركبتيه ثم سأله فقال شريك هكذا يطلب العلم .
ومن شعر المهدي ما أنشده الصولي:
ما يكف الناس عنـا ما يمل الناس منـا
إنما همـتـهـم أن ينبشوا ما قد دفـنـا
لو سكنا بطن أرض فلكانوا حيث كـنـا
وهم إن كاشفـونـا في الهوى يوماً مجنا
وأسند عن أبي عبيدة قال كان المهدي يصلي بنا الصلوات الخمس في المسجد الجامع بالبصرة لما قدمها فأقيمت الصلاة يوماً فقال أعرابي لست على طهر وقد رغبت في الصلاة خلفك فأمر هؤلاء بانتظاري فقال: انتظروه ودخل المحراب فوقف إلى أن قيل قد جاء الرجل فكبر فعجب الناس من سماحة أخلاقه.
وأسند عن إبراهيم بن نافع أن قوماً من أهل البصرة تنازعوا إليه في نهر من أنهار البصرة فقال: إن الأرض لله في أيدينا للمسلمين فما لم يقع له ابتياع منها يعود ثمنه على كافتهم وفي مصلحتهم فلا سبيل لأحد عليه فقال القوم: هذا النهر لنا بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه قال: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" وهذه موات فوثب المهدي عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حتى ألصق خده بالتراب وقال: سمعت لما قال وأطعت ثم عاد وقال بقي أن تكون هذه الأرض مواتاً حتى لا أعرض فيها وكيف تكون مواتاً والماء المحيط بها من جوانبها فإن أقاموا البينة على هذا سلمت.
وأسند عن الأصمعي قال: سمعت المهدي على منبر البصرة يقول إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته فقال "إن الله وملائكته يصلون على النبي" الآية "الأحزاب 56" آثره بها من بين الرسل إذ خصكم بها من بين الأمم.
قلت: وهو أول من قال ذلك في الخطبة وقد استسنها الخطباء إلى اليوم.
ولما مات قال أبو العتاهية وقد علقت المسوح على قباب حرمه:
رحن في الموشي وأصبحن علـيهـم الـمـســوح
كل نطاح مـن الـدهـر له يوم نـــطـــوح
لست بالباقـي ولـو عـم رت مـا عـمـر نـوح
نح علـى نـفـسـك يا م سكين إن كنـت تـنـوح
مات في أيام المهدي من الأعلام شعبة وابن أبي ذئب وسفيان الثوري وإبراهيم بن ادهم الزاهد وداود الطائي الزاهد وبشار بن برد أول شعراء المحدثين وحماد بن سلمة وإبراهيم بن طهمان والخليل بن أحمد صاحب العروض.