غسـان كنفانـي: في رواية أم سعد، كيف يرى في أم سعد النموذج الفلسطيني الوطني الأصيل، وكيف تكون المرأة معادلاً للصفاء والنقاء والخصوبة والأرض والوطن. وتشكل كياناً فاعلاً في مقدمات الثورة الفلسطينية.
امرأة من عالم غسان كنفاني
رواية أم سعـد للكاتب الفلسطيني المعروف غسان كنفاني، صدرت في 1969 على أصداء نكسه حزيران 1967 التي ألقت بظلالها على كافة نواحي الحياة العربية، وطرحت أسئلة قصور منظومة الفكر العربي والأنظمة العربية، ما أظهر الثورة الفلسطينية والمقاومة المسلحة ظاهرة أكثر تألقاً في أجواء الهزيمة الشاملة.
في هذا الواقع يعود غسان كنفانـي إلى النبع الأساسي، ويقدم نموذجه النسوي معادلا رمزياً للأرض، والخصوبة والوطن، والقدرة على الصمود والعطاء في أقسى ظروف يمكن إن يتعرض لها البشر.
فأم سعـد امرأة ريفية تسكن غرفة من صفيح في المخيم، وتحترف أعمال الخدمة السوداء المدينة "بيروت", في بيوت الطبقة الموسرة، عاملة نظافة, وخادمة تقدم ما يأنف منه الآخرون لقاء قروش بسيطة تضمن حياة الأولاد، في ظل بطالة الزوج الذي لا يجد عملاً، ولا يملك غير الشكوى والتذمر والجلوس على المقهى مهزوماً.
يعيد الكاتب إنتاج المرأة منبهراً بإيمانها بالحياة، وبطاقتها الإنسانية الايجابية التي تعتمد الأمل وسط واقع تتشابك فيه كل أسباب العتمة والإحباط.
كيف يكون ذلك وقد سلبت الحياة هذه المرأة كل شروط البقاء والصمود، إنه يراها كما يريد للمرأة الفلسطينية أن تكون.
"وبدت مثل شيء ينبثق من رحم الأرض"
"تمشي بقامتها العالية كرمح يحمل قدر خفي"
عندما تأتي يحضر معها الريف الفلسطيني بأصالته وبراءته وقيمه الضاربة عميقاً في الأرض.
"دخلت أم سعـد ففوحت في الغرفة رائحة الريف"
تؤمن باستمرارية الحياة، تزرع عود الدالية الأسمر الجاف وكلها ثقة بأنه سينمو ويصبح دالية تطرح عنباً شهياً، هذا العود الذي يحيا على أقل الماء ويمتص رحيق التربة الفقيرة يجود بأطيب الثمار مثله مثل أم سعد، وكأن الفطرة جعلت من الدالية وأم سعد صنوان أو توأمان.
"كانت تبدو أمام الباب المفتوح عملاقاً يدخل مع ضوء الشمس"
هذه الصورة المعنوية الأثرية التي تختزن طاقة الشمس في روحها، تدرك أن ابنها سعـد لابد سيخرج من الحبس وينطلق إلى الثورة، باحثا عن دروب الحرية ويكون التحاقه بالفدائيين منطقيا,ً فهو قدر الفلسطيني ووسيلته إلى الوطن.
أم سعـد لا تبكي، وعندما تخذلها اللحظة، ويكون الإرهاق والهم اكبر من طاقتها, تخجل من دموعها فتطلق الزغرودة، هل في ذلك أسطرة للمرأة الفلسطينية كما يريدها غسـان، المرأة هنا هي الوطن/ الأرض/ رحم الثورة/ لذلك لابد أن تكون بؤرة الهم ومفاعل الآلام ومنتج الصمود الذي يشكل السمة الأساسية لشعب منكوب مثل الشعب الفلسطيني.
"وفي ساعدها الأسمر القوي الذي يشبه لونه لون الأرض، ورأيت كيف للأمهات أن ينجبن المقاتلين"
تمارس الشقاء على مدار الساعة، تخدم في بيوت المدينة نهاراً، وتنضم لأهل المخيم ليلاً في مقاومة سيول الوحل، وطفح المجاري التي تغمر المخيم وتجتاح بيوت الصفيح، لا تعبأ بالجروحُ والخدوش التي تغطي مساحات جلدها.
يقول الراوي غسان:
"ففرشت راحتيها أمامي، كانت الجروح تمتد في خشونتها انهراً حمراء جافة تفوح منها رائحة فريدة، رائحة المقاومة الباسلة حيث تكون جزءًا من جسد الإنسان ودمائه".
وكأنه جهدها اليومي من أجل البقاء وتربية الأولاد، والوقوف إلى جانب الزوج, مقاومة لا تقل عن مقاومة الفدائيين على حدود الوطن.
غسـان كنفانـي يقدم نموذجاً إنسانياً من لحم ودم، فالتقط كل نساء المخيم وصهرهن في كيان واحد يمثل الخصوبة والنماء والإصرار، ويمتلك رحماً ولوداً يرضع من حليب التمرد، ويزود الثورة بالمقاتلين الذين يعرفون الدروب إلى الوطن، ضاربين عرض الحائط كل عوامل الإحباط،ويؤجل غسان كنفاني البحث في كثير من القضايا المتعلقة بالمرأة لضرورات الأولوية في مرحلة الثورة المسلحة.
***